من البديهي أن في حياة كل إنسان لحظات ينكسر فيها شيء عزيز بداخله، لحظات يشعر فيها أنه عالق في نفق مظلم بلا ضوء، تتناثر فيها مفاهيم الحياة، وتتبعثر العلاقات، وتنطوي القيم. حينها لا ينفع مال ولا بنون، ولا تنفع قوة ولا نفوذ ولا جاه. قد يكون ذلك مرضًا مباغتًا، أو فقدان عزيز، أو خسارة عمل، أو خيبة أمل كبيرة، أو تخلّي أقرب الناس عنه. بطبيعة الحال، يميل القلب والعقل إلى رؤية هذه اللحظات كشرٍّ محض، وتسيطر على النفس أسئلة موجعة: لماذا أنا؟ لماذا يحدث هذا الآن؟ أين العدل؟
ونتناسى في تلك اللحظات أن الدنيا من حولنا تحفل بمآسٍ أعظم، وأن الحروب ومخلفاتها من دمار وقتل وتشريد لأبرياء كثيرة، فيما نحن لا تزال تحيط بنا نعم الخالق من كل جانب، مهما ضاقت بنا الأحوال.
لكن حين يهدأ الصخب، ويبدأ الإنسان في التأمل، يكتشف ببطء أن ما ظنه شرًّا خالصًا لم يكن كذلك تمامًا. بل إن في قلب هذا الابتلاء بذور خير لو أتيح لها أن تنبت، لغيّرت حياة صاحبها تغييرًا عميقًا.
لو تأملت تجاربك الماضية، ستلاحظ أن بعض أكثر اللحظات إيلامًا كانت منعطفات صنعتك، أو نقّتك، أو أنقذتك من مسارات لم تكن لتليق بك. ربما خسرت وظيفة كنت تظنها مستقبلك، وربما حوربت في باب رزقك وظننت أنك أُفقرت، ثم وجدت طريقًا أكثر اتساقًا مع روحك وقيمك. ربما كسرك مرض، ثم أعادك إلى التواضع وذكّرك أن صحتك نعمة لم تحسن شكرها. وربما أبعد الخالق عنك شخصًا أحببته بشدة، ثم اكتشفت لاحقًا أن بقاءه كان سيؤذيك أكثر مما ينفعك.
حينها يدرك العاقل المؤمن بالقضاء والقدر أن الابتلاء ليس دليل كراهية من الخالق، بل قد يكون أحيانًا أعلى درجات العناية واللطف بك. إن الخالق الحكيم لا يبتلي عباده عبثًا، ولا يتركهم في التيه بلا مقصد. بل كل ألم يمر بنا يحمل في طياته رسالة عميقة:
تذكير بضعفنا وافتقارنا للخالق.
تنبيه لنراجع أنفسنا وخياراتنا.
تقويم لانحرافاتنا التي لا نشعر بها.
تمحيص وتطهير لقلوبنا.
قال تعالى:
“وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ.”
لو لم يكن في الابتلاء خير، لما جاءت البشارة بعده.
إن من بديهيات الإيمان أن المؤمن يرى ما وراء اللحظة العصيبة، حيث تتكشف له الحقائق، وتسقط الأقنعة، وتتهاوى بعض الهامات حتى يصبح كل شيء زائفًا عاريًا تمامًا، ليتمكن من التمييز بين الغث والسمين، بين الصادق والمزيَّف، بين الأصيل وعديم الأصل. لا يعني هذا ألا نشعر بالحزن، أو ألا نبكي على فوات الأحبة والفرص، بل يعني ألا نجعل الحزن يغلق علينا باب الرجاء، وألا نحكم على الأقدار بميزان رؤيتنا المحدودة. فما نحسبه ضياعًا قد يكون نجاة، وما نراه حرمانًا قد يكون تحررًا، وما نتصوره نهاية قد يكون بداية جديدة لم تخطر لنا على بال.
ليس كل الابتلاءات شرًا، لأنها تنمّي فينا الوعي والرحمة والتواضع. من ذاق مرارة الخسارة يعرف كيف يربت على قلب غيره. ومن تعرّف على العجز والمرض يقدّر قيمة العافية والفرص. ومن عاش الوحدة القاسية يفهم حقًّا معنى الأنس والصحبة، ويعرف قيمة القلوب الصادقة التي لا تتخلى حين يتخلى الجميع.
في جوهرها، الحياة ليست سلسلة أحداث مريحة، بل ميدان تربية وتزكية. يربينا الخالق بالمواقف، يختبر صدق إيماننا وصبرنا، وينقينا من العجب والغفلة والكبر. ولو تأملنا في سير الأنبياء والصالحين، لوجدنا أن الابتلاء كان الثوب الذي ارتدوه قبل العزة والرفعة. يوسف عليه السلام عرف الظلم والخذلان والسجن قبل أن يبلغ المنزلة الرفيعة. موسى عليه السلام خاف وهاجر وتحمّل قبل أن يحمل رسالة عظيمة إلى قومه. أيوب عليه السلام صبر على المرض والفقد حتى صار مضرب المثل في الثبات والرضا.
وليس علينا أن نفهم كل الحكمة فورًا. أحيانًا لا تنكشف معاني الابتلاء إلا بعد سنوات طويلة، حين نراجع شريط حياتنا بهدوء ونتأمل الأحداث بأعين جديدة. عندها فقط نربط النقاط ونقول: الآن أفهم لماذا حدث ذلك.
ما يوجعنا اليوم قد يكون مصدر امتناننا غدًا، وما يكسرنا اليوم قد يكون ما يبنينا للأبد. هذه ليست شعارات وعظية، بل حقائق عاشها كل من ذاق الفقد والخسارة، ثم رأى كيف ألهمته المحن ليقف أقوى وأعمق.
لهذا، كلما ضاق صدرك، اذكر قول الخالق العظيم:
“عَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.”
هذا التصديق بأن الخالق يعلم ما لا نعلم، هو ما يمنح القلب طمأنينة وسط العواصف الحياتية العاتية، ويملؤه يقينًا بأن وراء كل قدر حكمة، وخلف كل وجع رحمة لم نرها بعد.
إن الابتلاء ليس لعنة في كل الحالات، بل قد يكون في جوهره قمة النعم وأنت لا تدري، هدية متنكرة في هيئة ألم. وحين نتحلى بالصبر والبصيرة، نرى وجه الخير فيها. ولعل أعظم درس تمنحنا إياه الشدائد هو أننا لا نملك شيئًا على الحقيقة إلا رحمة الخالق ورعايته.
ختامًا، ثق دائمًا أن في كل ابتلاء دروسًا، وفي كل محنة بذرة خير تنتظر صبرك وإيمانك لتنمو. فما خاب من أحسن الظن بالخالق، وما ضاع قلبٌ آمن بأن الأقدار كلها خير، حتى لو تأخر فهمنا لذلك.