أيها الشعر !
هذا الأبله ..سوف يلطّخ جناحيه بالأصباغ!
هكذا هتف الشاعر عندما رأى نورساً ينقضّ على زرقة البحر، آملاً أن يلتقط السمكة التي ترصّدها من علٍ!
لكن، كيف لوعي الشاعر أن يقنعه سببٌ كهذا وهو من اعتاد أن ينزع عن ظواهر الوجود قشورها الماديّة الباهتة، ليرى فيها ذلك الوميضَ المذهل،
ويعي جيداً أنه هو وحدَه من يمنحها سرّ وجودها ونسغ بقائها الأبهى!؟
إنّه الفنّ الذي لا يرضيه أبداً إلّا التوغّل في الأعماق المكنونة لكي يريَنا ذلك الغامض الساحر الذي عميت عن اجتلائه الرؤية القاصرة المحكومة بالاعتياد، فليست عين الفنّان محض أداة لاستقبال صورة الأشياء كما هي، إنها فرصة لإعادة خلقها وتشكيلها من خلال استبطان جانبها اللامرئيّ، عندها فقط يصبح قابلاً للفهم قولُ رودان:
عندما تمشّط امرأة شعرها فإنّها تقلّد حركات النجوم!
والشعر، مهما اختلفت الأذواق والمعايير، يظلّ تلك القدرة الباهرة على إذهال الروح، حين يرقى به إلى مشارف الجمال الثرّة، ويدرّبه على اقتناص ذلك الإحساس الممكن والعصيّ في اللحظة ذاتها، وبهذا يتقاطع الشعر مع براءة طفولة الإنسان التي تعجز الحياة الصمّاء عن محقها!
حيث الطفولةُ هي ذلك العصر الذهبي الذي نهرقه على دروب العيش اللاهثة بنا إلى كل ما هو نافع ومحسوس ويشغل حيّزاً فيما نملك!
إنّها ذلك الحلم الذي ركلْنا إناءه الذهبيّ بحذاء البحث عمّا يملأ معداتنا الجائعة، فاندلق رؤىً فيّاضة مقموعة على ضفاف الحياة الواقعيّة اليابسة.
وكم أصبح صعباً علينا أن نعود لنلتقط فتاته المتناثرة بعد أن دجّجتنا الحياة المعيشة بركام من الشكليّات والقوانين المنطقيّة الصمّاء التي لا مهمّة لها سوى إطفاء جذوة الروح بما تدلقه فوقها من برودة الأحكام الجاهزة العقيمة!
فكيف نقنع أصحاب تلك النظريّات الضخمة الفخمة أنّه ليس مجنوناً ذلك الثائر الذي وضع بين أسنانه عُشبة يانعة، وراح يضغطها بأسنانه حتى لا يسمعه الجلّادون وهو يئن تحت سياطهم؟!
وكيف نُفهم هؤلاء الحكماءَ أنّه طبيعيّ جداً ذلك الطفل الذي رأى أنّ قشرة البرتقالة ليست سوى سفينةٍ ملأى بضوء القمر!؟
إنّه الشعر، كينونة المشاعر العذراء قبل أن تدجّنها الحاجات وما تجرّه خلفها من ضيق الأفق.
الشعر هو ذلك الكائن النورانيّ الذي يسعى ليتلبّسنا أينما يمّمنا وجوهنا علّه يلقي عنا تلك السحن المصطنعة التي تعلّمنا أن نتقنّع بها، إنه يقودنا من يدنا ليعيدنا إلى الطفولة التي هجرناها مكرهين لأنّهم زيّنوا لنا دائماً الجنة التي هي عالم الكبار، فأسرعنا نقذف نحو الشمس أسناننا اللبنيّة، ونخلع خلف العتبات أخفافاً صنعناها من زهر الحقول وأوراق الدوالي!
فيا أيّها الشعر، يا صديق وجودنا البكر البهيّ، سرْ بنا قدماً إلى جذور الينابيع الصافية، فمن دونك سوف تثقلنا صفاقة الواقع البليد الخالي من عذوبة الأمنيات.
ومن سواكَ يستطيع أن يخصب هذه الحياة الكالحة، فيعيد ترتيب أشيائها بيد الفنّان المبدع لعلّها تظلّ جديرة أن تعاش!
من غيرك أيّها الشعر يستطيع أن ينتشل كلماتنا من المستنقع الآسن الذي غرقت فيه، ليغسل حروفها بألق الروح المرهف فيعيد إليها رونقها وبهاءها؟!
سوف تظلّ أبد الدهر في طليعة الفنون، تهتف لمجد الإنسان الحقيقيّ وتبلسم جراح المتعبين والمهروسين تحت عجلات القهر والجوع والانكسارات الكبيرة، لأنك وحدك القادر أن تُخرج إلى عراء الضوء الفسيح مزق أحلامهم المبتلّة بالدموع!
وسوف تفرح أيّها الصديق حين نرمي إلى مزبلة التاريخ أكواماً هائلة من الورق المحبّر والمحمول على كاهلك المتعب!
إنّه ورق كثير امتلأ بكلام مزدحم ببعض من نغماتك المسروقة، لكنّه سرعان ما تنكشف زيوفه حين تنبعث منه رائحة أحذية السادة المترفين وعربدات مخادعهم السريّة!
نعم أيّها الشعر، يا صديقي سوف تظلّ راياتك خفّاقة مهما تقاطرت الأزمنة، وسوف يظلّ الشاعر الحقّ يشمخ بكبرياء روحه حين يهتف له الناس:
لقد رأينا اللهب على فمك.
فيجيبهم بحبور المبدع:
نعم، إنّها كلماتي!