آخر الأخبار

أسرار صغيرة - الأديبة ميساء البشيتي

إلى روح الشاعر الرمز " محمود درويش " .

أتيت إلى هنا ، إلى حيث كنتَ ترتشف قهوتك المرَّة على سفوح الكرمل ، وكعادتي حين تهاجمني رياح الشوق إلى حديثٍ مطول معك ،آتي إلى هنا ، وفي جعبتي الكثير من البكاء ، وبعض الكلام الممنوع من الصرف !

بعضُ الغيَّاب عادوا من غيابٍ طويل ، والبعض يغادر دون أن تعرف إلى أين وجهته ، وإلى أيِّ زمان أصبح الآن ينتمي !

وحدك من لا يغادر ، ويبقى حياً في القلوب ،يشرب من عين الصباح ، ويُسقي بيمينه عكا ، وحيفا ، والكرمل ، وصفد .

القهوة اليوم ، في هذا الفضاء الذي يحتويروحك ، في بيت من بيوت  القصيد ، أصبحتبطعم الحنظل ، القهوة اليوم تفتقد إلى سكر حديثك ، تفتقد إلى شهد الكلام ، فليس سواه المرار يغمر حياتنا ، كما تغمر الثلوج قمم الجبال .

نحن الآن في حالٍ لا يسرُّ الحبيب ، ولا يغيظ العدا ! نحن نمرُّ بحقبةٍ  زمنيةٍ  دخيلة علىتاريخنا ، نُخدع في كل يومٍ ألف مرة ، ولكن ليس لذكاء المخادع ، بل لغباء في سعة مداركنا !

نصدق الآخر ، الآخر الذي بنيَّ ، وتشكلَّ من الكذب ، والمراوغة ، ونقول لأنفسنا ، ونوهمها ،أنه شبع كذباً ، وأنه لا بد أن يعود إلى المسار الصحيح ، فنفاجأ بأن أفكارنا ، وكلماتنا ، قد نصبت للتوِّ على أعواد المشانق !

الكلُّ يكذب ، اليوم الكلُّ يكذب ، الصغير والكبير ، يكذب ، الكلُّ يكذب ، لكنه كذبٌ ينمُّ عن غباءٍ كبير!

أيام الذكاء ، والدهاء ، والخداع المبطن ، ولَّت إلى غير رجعة ، كل شيء أصبح الآن على المكشوف ، ومع ذلك نخدع كل يوم ألف مرة !

من أين أتانا كل هذا الغباء ، وفي أيِّ دهر احتلنا ، ونحن لم نكن نعي أننا محتلون إلا  من عدو واحد ؟!

اكتشفنا اليوم ، وبالصدفة المحضة ، أننا محتلون من هذا الغباء الذي أخذ يتكاثر ، وينمو، ويكبر أكثر بكثير ، من أشجار الزيتون في بلادنا .

هل تذكر أشجار الزيتون بكَرَمِها ، وبهائها ، وعظمتها ، اليوم بدأت تظهر إلى جانبها أشجار غباءنا !

كيف ضحك علينا الآخر ، ونال منا كل هذا ؟

كيف ترعرعت السذاجة في عقولنا وأفكارنا ،

وانتشرت ، كما تنتشر النار في الهشيم ،  ثم تسللت  إلى جيناتنا ، وأصبحت من الصفات المكتسبة ، بل وأخذنا نُورِثَها جيلاً بعد جيل !

أتذكر كم ركضنا في رياض المدارس ، وحرم الجامعات ، وكم خبئنا من الكتب تحت المعاطف ، وداخل الجيوب ، خوفاً من عيون الظلم ، هم اليوم يخبئون الرغيف !

فالجوع قد احتل البلد ، والويل لأمة تكالبت عليها شتى صنوف الظلم والقهر ، فنسيت عدوها الأوحد ، الذي تفشى كالسرطان في الكبد  !

 

وعكا ، لن أكلمك عن عكا ، أو الكرمل ، أو صفد ،  فأنت أدرى الناس بهم ، وكيف مزقوا جدائلهم العربية ، ووزعوها على الغرباء ، وما لبى نداءهمأحد ، وما التفت إليهم من ملتفت .

 

لو بقيت معنا إلى اليوم ، لرأيت كم سيفٌسيشهر في وجهك ، ويطالبك بالرحيل عن كل معتقد ، وما أكثر السيوف التي تدك خاصرة الوطن الكبير اليوم ، سيوف التطرف ، والتشهير، والتكفير ، والتعريب ، والتغريب ، و......

هو أيضاً مزقوا جدائله ، كما جدائل عكا ، والجليل ، والأقصى ، وأبواب القدس السبع .

ولكن جدائله لم تعطَ للغريب ، بل ألقوا بها إلى هامش التاريخ ، فلن تفيد أحداً .

هذا التاريخ الطويل ، العريض ، المشع ، البراق ،الذي طالما غنيته في أشعارك ، محوه ، مزقوه ،

زيفوه .

نالوا منه ، ووضعوا عوضاً عنه تاريخاً آخر ، غير مقروء ، غير مفهوم ، غير منتمٍ لأحد .

نحن اليوم يا محمود لم نعد نخبىء الكتب داخل معاطفنا ، بل أصبحنا نخبىء كسرة الخبز!